بعد طول تخفّ، قرر «شاهد العيان» السوري عبد الله أبا زيد أن يكشف عن شخصيته، بعد أن غادر سوريا بطريقة غير مشروعة إلى الأردن، ومنه إلى تركيا، مقر إقامته الجديد حتى إشعار آخر. يسمونه «شاهد العيان» ويسمي نفسه أحد «الأشخاص الذين كانوا يحاولون نقل الحقيقة من درعا وإيصالها إلى العالم الخارجي». أما اسمه الحقيقي فهو عمر عللوه، طيار مدني
كان يعمل في شركة طيران أردنية خاصة، امتهن في الفترة الأخيرة تصوير المظاهرات واقتحام برادات الجثث في المستشفيات في درعا التي بات ممثلا لتنسيقياتها في الخارج الآن بعدما عمل منذ اندلاع المواجهات متخفيا فيها.
عللوه، شرح لـ«الشرق الأوسط» من إسطنبول التي يمثل فيها تنسيقية درعا، ما حصل معه منذ 15 مارس (آذار) وحتى الأول من يوليو (تموز) عندما تمكن من مغادرة البلاد تاركا فيها «نسائم الحرية التي هبت ولم يعد أحد قادرا على إخمادها» كما يقول. يشير عللوه إلى أن «الثورة السورية بدأت في درعا يوم الجمعة في 18 مارس عندما خرج الناس للمطالبة بإصلاحات، ولم يكن هناك أي سقف عال يطلب إسقاط النظام أو ما شابه. لكن تسلط النظام والتصرفات العنجهية التي قام بها مسؤولوه والتي أدت إلى مقتل صديقين لي في درعا، حسام عبد الله عياش ومحمود قطيش جوابرة، ومن يومها بدأت الشرارة». ويقول: «أنا لم أكن أنتمي إلى أي حزب موال أو معارض، ولم يكن لدى أهلي أية ميول سياسية. أنا طيار مدني، كنت متوقفا عن العمل لأسباب شخصية لها علاقة بشركة الطيران التي أعمل لديها، لكن ما حصل في درعا أجبرني، ومن معي، على التواصل مع وسائل الإعلام العربية والعالمية لنقل الصورة. كانت البداية كتابيا، عن طريق الرسائل الإلكترونية وبرامج التحادث. لكن الأمر تطور إلى أن أخذوا أرقام هواتفنا السورية وتواصلوا معنا. في البداية كنا شهود عيان من دون أي اسم، وكنا ننقل الخبر بمصداقية وشفافية عالية. كنا نتأكد من الخبر ونقاطعه مع أخبار أخرى. وكنا لا نعطي أعداد الشهداء إلا بعد أن نتأكد منها. ونذكرها بالاسم الثلاثي حتى لا يحصل أي تكذيب».
بعد قطع الاتصالات والإنترنت بدأ الناشطون ومن ضمنهم عللوه باستحضار أجهزة الثريا، ويقول: «أنا كان لدي جهاز أصلا كوني كنت طيارا مدنيا وكنت أستعمله كثيرا، وكان لدي خط إماراتي ولدي فواتير، حتى لا يقال إننا مدعومون خارجيا». ويضيف: «ما دفعنا إلى ركوب المخاطر وسلوك هذا الدرب، هو الدماء التي رأيناها، والتي سالت فقط لأنها طالبت بالحرية. لم أكن وحدي، بل من ضمن مجموعة من الشباب الذين تحركوا من مختلف الانتماءات الاجتماعية لأننا بدأنا نشعر أن نسائم الحرية بدأت تهب على وطننا الحبيب».
بدأ عمر عمله تحت اسم «شاهد عيان» ثم سمى نفسه عبد الله أبا زيد، وكان عمل في الخفاء. حتى أهله، لم يكن أحد منهم يعرف أنه يعمل مع القنوات الفضائية، وأنه كان يرسل إليها الصور ومقاطع الفيديو مستعينا بخط إنترنت سريع غير سوري. ويقول: «كنت أمتلك كاميرا، هي صديقتي المفضلة، أصور بها كافة المظاهرات، وأصور مقاطع عن الشهداء. وقد دخلت بها أكثر من مرة إلى مستشفى درعا الوطني وإلى براد الجثث فصورتها وصورت ما حل بها من إصابات. وتكلمت مرة مع قناة (بي بي سي) من داخل المستشفى، وخاطرت بذلك بحياتي وحياة المريض الذي كان معي. كانت يومها مجزرة إزرع كما تسمى، وقد تحدث أحد المصابين عن ما جرى معه، وهذا المصاب استشهد في مظاهرة لاحقة».
أما لماذا ركوب المخاطر، الجواب بسيط عند عللوه: «كنا نريد أن نرسل الصوت والصورة إلى الخارج حتى نفضح ممارسات النظام الذي تفنن إعلامه في تفنيد وتكذيب كل من خرج مناديا بالحرية».
اللافت أن الكثير من مقاطع الفيديو التي حصل عليها عللوه وأرسلها إلى القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية، هي مقاطع صورت بكاميرات أجهزة الأمن التي باع عناصرها لعللوه ورفاقه المقاطع بأسعار زهيدة، وأبرزها تلك المشاهد المروعة التي بثت على الهواء وهي تظهر جنودا يتنقلون فوق جثث على سطع مسجد الكرك في درعا، وهو مقطع اشتراه عللوه بمبلغ 40 دولارا أميركيا فقط من جندي يقول إنه ظهر في الشريط. ويشرح قائلا «اشترينا الكثير من مقاطع الفيديو من رجالات النظام، وبمبالغ زهيدة. ومن هذه المقاطع تلك التي ظهرت فيها الدبابات تسحق الدراجات النارية. ومنها مجزرة الكرك التي حصلت عليها من شخص هو عضو في وحدة (المهام الخاصة) وهي تابعة للمخابرات والجيش. وحصلت على أسماء الضباط بالكامل، والشاب موجود اسمه لدي. هؤلاء الشباب الذين قتلوا كانت مهمتهم إيصال الأغذية والحليب والأدوية إلى المحاصرين في درعا، وتم قتلهم على سطح مسجد الكرك، ثم التفنن في التمثيل بجثثهم على سطح المسجد. ومن غباء هذا النظام وأجهزة المخابرات أنهم كانوا يصورون أنفسهم يضعون الأسلحة والذخائر على الجثث. هذا الفيديو دفعت ثمنا له 2000 ليرة سورية (40 دولارا فقط) من جندي يظهر في الشريط (طلال الأحمد ظهر في الفيديو يرفع شارة النصر ويضع في يده اليسرى مشدا طبيا بلون أزرق) وهو لم يبعه تعاطفا معنا، بل لحاجته إلى المال، وهذا ما يظهر نوعية المرتزقة التي يضعونها في هذا الجيش الذي يضم الكثير من الشرفاء».
لم يكتشف أمر عمر، إلا عندما ظهر مفتي درعا الشيخ رزق أبا زيد على التلفزيون متراجعا عن استقالة أعلنها قبل مدة. الشيخ أبا زيد، قال إن عمر هو نفسه عبد الله أبا زيد، واتهمه بأنه كان من «غرر به» وأقنعه بالاستقالة مقابل جهاز اتصالات متطور. يؤكد عللوه أن المفتي «استقال من تلقاء نفسه ومن دون أي تدخل من قبلنا. أنا في الشارع لم يكن لدي ثقل، كوني كنت أعمل متخفيا ومن تلقاء نفسي، لكن الشيخ - سامحه الله - بعد أن رأى أن الحصار اشتد على درعا ظن أن الكفة رجحت إلى جانب النظام فأراد أن يعود عن استقالته، وهكذا كان يجب أن يقدم تنازلات، وتنازله كان تقديم لائحة بأسماء النشطاء الذين كانوا يتواصلون مع الإعلام العالمي، وكان اسمي على رأس القائمة التي تلاها في لقائه على تلفزيون (الدنيا) الموالي للنظام. قائلا إن عبد الله أبا زيد هو عمر عللوه، وادعى أنني وعدته بجهاز ثريا إذا استقال. هو استقال أمام الناس جميعا، وأنا لم أعده بشيء، وهو على أية حال يدين نفسه بذلك إذا صدقنا أنه استقال طمعا بجهاز ثريا». ويضيف: «بعد التصريح باسمي، تواريت مباشرة، فاعتقلوا إخوتي الثلاثة. وذهبت إلى إحدى القرى القريبة من درعا. وكنت أتنقل لأنام في بيت وأقضي النهار في بيت آخر، وكنا على الغالب ننام في السهول وبين الأشجار. وفي إحدى المرات داهموا مزرعة لوالدي، وكنت أراقبهم دائما من بعيد، وأسجل أرقام سياراتهم ثم أبثها على الهواء مباشرة».
تواريت فترة، وخلال هذه الفترة بث الشباب خبر اعتقالي حتى يخففوا من حملة البحث عني، لأنه لا يوجد تنسيق بين أجهزة المخابرات المختلفة، فغالبا ما نرى أن جهازا يبحث عن شخص هو معتقل لدى جهاز آخر. مشيت اللعبة وصدقت أجهزة الأمن، فخرجت إحدى مذيعات قناة «الدنيا» لتقول على الهواء «اليوم نفد الشحن من موبايل عبد الله أبا زيد». وهكذا تمكنت من الخروج بطريقة غير مشروعة، فاتخذ البلد الذي دخلت إليه الإجراءات القانونية بحقي لكنهم كانوا طيبين للغاية، ومن ثم رحلوني إلى تركيا بناء على طلبي.
في منفاه الجديد يقول عللوه: «ما حدث من فظائع في درعا يعجز اللسان عن وصفه ويحتاج إلى مجلدات لنشره. درعا لا تزال بمثابة ثكنة عسكرية، وهي في الأساس كانت منطقة حرجة. الجنود الذين دخلوا إلى درعا 30 ألفا، وهذا رقم مؤكد نقله إلي أحد الضباط الشرفاء ال ذين لا يزالون في مواقعهم. وأنا أبشر الجميع أن هناك من الشرفاء من ينتظرون إشارة والانشقاقات كثيرة وهي انشقاقات بالفرق وليست فردية. هذا تكتيك، هم عسكر وهم أدرى بما يفعلونه».