دمشق تؤمن أن الكلام الساخط وحده لا يكفي، وهو ليس سوى غبار صيف يعمي العين، ولكن النظام السوري مطبق على العاصمة السورية كما الوحش الجريح الذي يصارع آخر سكرات الحياة، محاولاً الفتك بكل ما حوله محولاً الاحتقان الذي في الصدور ناراً أصبح من الواضح أن الرماد الذي يغطيها لن يستمر طويلاً.
وإن كانت دمشق تاريخياً أثبتت مهارة وحنكة في التحايل على الظلم، وإن كانت حافظت في جميع الظروف على هدوء ظاهري، فإن هذا الهدوء لا يجعل الطمأنينة تستقر في قلب النظام الحاكم، إذ إن الحركة شبه الطبيعية للشوارع وللناس لا يمكن أن تنبئ عن الواقع الحقيقي للمدينة.
ومن يرى دمشق اليوم يفهم ماذا يعني أن تتشح بالسواد كالأم الثكلى، ويدرك ما معنى أن يستفزها النظام السوري بإشاعة الخوف والرعب في شوارعها من خلال حواجزه ومسيراته وشبيحته الذين باتوا مظهراً موجوداً في كل مكان عام أو خاص، حزن وغضب سكانها ينبعث من أفئدتهم ليلتحموا بمدينتهم ليلاً خارجين كل ليلة هاتفين لنصرة إخوتهم.
ريف دمشق "الابنة المدللة" تُقتحم يومياً تحت سمع سكان دمشق، ومالم يعتده هؤلاء هو سماع أصوات الرصاص، والجديد هذه الأيام أن أصوات الرصاص لم تعد حكراً على ما يأتي من الريف المحيط بالمدينة، بل تعداه لينطلق في أكثر الشوارع تأييداً للنظام عادة في النهار، وكأن دموع دمشق باتت تجري دون توقف بعد أن صارت عيونها ساحة للصمت.
وإن كان التلفزيون السوري الرسمي بث الاستقبال الذي قام به المؤيدون على أتوستراد المزة لوزير الخارجية الروسي، فإن ذات التلفزيون لم يملك جرأة أن يقول إن أتوستراد المزة الذي استبيح لمسيراتهم منذ بداية الثورة أعلن انتفاضته الخاصة، واعتاد كل ليلة على الخروج عند منتصف الليل ليهتف لحمص ولريف دمشق محاولاً تضميد جرحه الذي أصر على النزيف من الجسد كله.
اعتاد النظام السوري أن يجمع الموظفين والطلاب في ساحة السبع بحرات "الأصغر من حيث المساحة"، ولكن التجارب الفاشلة في حشد عدد كبير عدة مرات جعلته يغير سياسته، منتظراً مناسبة كزيارة وزير الخارجية الروسي مستخدماً الترغيب لكل من يشارك والترهيب لمن لا يشارك في مسيراته المصطنعة، فأصبح يوم المسيرة هو يوم عطلة رسمي بالنسبة للموظفين وخصوصاً المعارضين منهم.
حالة من الجمود تسيطر على المدينة، أروقة المؤسسات الرسمية تحولت إلى ما يشبه الفوضى، وأي مواطن يدخل حاملاً معاملة رسمية فإن معاملته ستدخل الأدراج لتقبع فيها إلى ما شاء الله.
المقاهي باختلاف أنواعها باتت مقصد الشبيحة وعناصر من الجيش بلباسهم الرسمي، يجلسون هناك مستفزين مشاعر كل من دخل المقهى أو المطعم، مفجرين بذلك براكين من الغضب المكبوت وسط أخبار القتل والوحشية التي يسمعها سكان دمشق كما غيرهم في باقي المدن، لتتحول أحاديث هؤلاء إلى الهمس، وليصبح الهواء العقيم هو المسيطر على الجالسين، ولتزحم النقاشات والكلمات الغاضبة فاضة بذلك بكارة الصمت رافضة الموت.
ومع تحول الوطن إلى تابوت كبير يدرك سكان العاصمة أن دورهم آت لا محالة، وما الهدوء المخيم على بعض شوارعها إلا أكذوبة، ولتصل آهات وصرخات حمص وريف دمشق محطماً الخناجر الخشبية التي تتموضع عند الرقاب.